الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال، وتكرير في، في قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فيه فضل ترجيح لهذين، على الرقاب والغارمين. انتهى.قال الناصر: وَثُمَ سر آخر هو أظهر وأقرب، وذلك أن الأصناف الأربعة الأوائل ملّاك لما عساه يدفع إليهم، وإنما يأخذونه ملكًا، فكان دخول اللام لائقًا بهم، وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون ما يصرف نحوهم، بل ولا يصرف إليهم، ولكن في مصالح تتعلق بهم.فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون والبائعون، فليس نصيبهم مصروفًا إلى أيديهم حتى يعبّر عن ذلك باللام المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم، وإنما هم محالّ لهذا الصرف، والمصلحة المتعلقة به.وكذلك الغارمون، إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم، تخليصًا لذممهم، لا لهم وأما: {سبيل الله} فواضح فيه ذلك.وأما: {ابن السبيل} فكأنه كان مندرجًا في سبيل الله، وإنما أفرد بالذكر تنبيهًا على خصوصيته، مع أنه مجرد من الحرفين جميعًا، وعطفه على المجرور باللام ممكن، ولكنه على القريب منه أقرب. والله أعلم.ثم قال: وكان جدي أبو العباس أحمد بن فارس الفقيه، استنبط من تغاير الحرفين المذكورين وجهًا في الإستدلال لمالك، رحمه الله، على أن الغرض بيان المصرف واللام لذلك لام الملك، فيقول: متعلق الجارّ الواقع خبرًا عن الصدقات محذوف، فيتعين تقدير، فإما أن يكون التقدير: إنما الصدقات مصروفة للفقراء، كقول مالك، أو مملوكة للفقراء، كقول الشافعي، لكن الأول متعين لأنه تقدير، يكتفي به في الحرفين جميعًا، يصح تعلق اللام به وفي معًا، فيصح أن نقول: هذا الشيء مصروف في كذا ولكذا، بخلاف تقديره مملوكة، فإنه إنما يلتئم مع اللام، وعند الانتهاء إلى في يحتاج إلى تقدير: مصروفة ليلتئم بها.فتقديره من اللام عامّ التعلق، شامل الصحة، متعين، والله الموفق. انتهى.السادس: قال الزمخشري: فإن قلت: فكيف وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين ومكايدهم؟قلت: دلّ بكون هذه الأصناف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم حسمًا لأطماعهم، وإشعارًا باستيجابهم الحرمان، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها، فما لهم وما لها، وما سلطهم على التكلم فيها، ولمز قاسمها صلوات الله عليه وسلامه. انتهى.وتقدم بيانه أيضًا. اهـ.
.قال السعدي: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.يقول تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} أي: الزكوات الواجبة، بدليل أن الصدقة المستحبة لكل أحد، لا يخص بها أحد دون أحد.أي: إنما الصدقات لهؤلاء المذكورين دون من عداهم، لأنه حصرها فيهم، وهم ثمانية أصناف.الأول والثاني: الفقراء والمساكين، وهم في هذا الموضع، صنفان متفاوتان، فالفقير أشد حاجة من المسكين، لأن اللّه بدأ بهم، ولا يبدأ إلا بالأهم فالأهم، ففسر الفقير بأنه الذي لا يجد شيئا، أو يجد بعض كفايته دون نصفها.والمسكين: الذي يجد نصفها فأكثر، ولا يجد تمام كفايته، لأنه لو وجدها لكان غنيا، فيعطون من الزكاة ما يزول به فقرهم ومسكنتهم.والثالث: العاملون على الزكاة، وهم كل من له عمل وشغل فيها، من حافظ لها، أو جاب لها من أهلها، أو راع، أو حامل لها، أو كاتب، أو نحو ذلك، فيعطون لأجل عمالتهم، وهي أجرة لأعمالهم فيها.والرابع: المؤلفة قلوبهم، المؤلف قلبه: هو السيد المطاع في قومه، ممن يرجى إسلامه، أو يخشى شره أو يرجى بعطيته قوة إيمانه، أو إسلام نظيره، أو جبايتها ممن لا يعطيها، فيعطى ما يحصل به التأليف والمصلحة.الخامس: الرقاب، وهم المكاتبون الذين قد اشتروا أنفسهم من ساداتهم، فهم يسعون في تحصيل ما يفك رقابهم، فيعانون على ذلك من الزكاة، وفك الرقبة المسلمة التي في حبس الكفار داخل في هذا، بل أولى، ويدخل في هذا أنه يجوز أن يعتق منها الرقاب استقلالا لدخوله في قوله: {وفي الرقاب}السادس: الغارمون، وهم قسمان:أحدهما: الغارمون لإصلاح ذات البين، وهو أن يكون بين طائفتين من الناس شر وفتنة، فيتوسط الرجل للإصلاح بينهم بمال يبذله لأحدهم أو لهم كلهم، فجعل له نصيب من الزكاة، ليكون أنشط له وأقوى لعزمه، فيعطى ولو كان غنيا.والثاني: من غرم لنفسه ثم أعسر، فإنه يعطى ما يُوَفِّى به دينه.والسابع: الغازي في سبيل اللّه، وهم: الغزاة المتطوعة، الذين لا ديوان لهم، فيعطون من الزكاة ما يعينهم على غزوهم، من ثمن سلاح، أو دابة، أو نفقة له ولعياله، ليتوفر على الجهاد ويطمئن قلبه.وقال كثير من الفقهاء: إن تفرغ القادر على الكسب لطلب العلم، أعطي من الزكاة، لأن العلم داخل في الجهاد في سبيل اللّه.وقالوا أيضا: يجوز أن يعطى منها الفقير لحج فرضه، وفيه نظر.والثامن: ابن السبيل، وهو الغريب المنقطع به في غير بلده، فيعطى من الزكاة ما يوصله إلى بلده، فهؤلاء الأصناف الثمانية الذين تدفع إليهم الزكاة وحدهم.{فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} فرضها وقدرها، تابعة لعلمه وحكمه {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} واعلم أن هذه الأصناف الثمانية، ترجع إلى أمرين:أحدهما: من يعطى لحاجته ونفعه، كالفقير، والمسكين، ونحوهما.والثاني: من يعطى للحاجة إليه وانتفاع الإسلام به، فأوجب اللّه هذه الحصة في أموال الأغنياء، لسد الحاجات الخاصة والعامة للإسلام والمسلمين، فلو أعطى الأغنياء زكاة أموالهم على الوجه الشرعي، لم يبق فقير من المسلمين، ولحصل من الأموال ما يسد الثغور، ويجاهد به الكفار وتحصل به جميع المصالح الدينية. اهـ..قال عبد الكريم الخطيب: قوله سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها}.هو بيان مصاحب لما وقع في نفوس المسلمين من قسمة غنائم هوازن، والتي كان النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- قد تألف بها بعض النفوس التي كانت تعادى الإسلام، وتحقد على رسول اللّه أن كان هو المبعوث المتخيّر لدين اللّه..!وقد اشتمل- هذا البيان فيما اشتمل عليه ممن لهم نصيب في الصدقات- المؤلفة قلوبهم، الذين كان منهم من تألفه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غنائم هوازن..وفى هذا ما يكشف عن أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- كان فيما فعله في غنائم هوازن، وفى اقتطاع قدر منها لمن أراد أن يتألف قلوبهم- كان منفذا لأمر اللّه، ولم يكن فيما قضى به في ذلك منقادا لهوى أو مؤثرا لقرابة أو صداقة..وحاشاه، صلوات اللّه وسلامه عليه.والآية الكريمة وإن كانت في بيان مصارف «الصدقات» التي خصصها الفقهاء هنا «بالزكاة» حيث استبان لهم من قوله تعالى، {وَالْعامِلِينَ عَلَيْها} أن ذلك يشير إشارة صريحة إلى أن المراد بالصدقات هو الزكاة، التي لها وحدها من دون الصدقات، عاملون يعملون لتقديرها وأخذها ممن وجبت عليهم هذه الفريضة..نقول: إن الآية الكريمة وإن كانت في بيان مصارف الزكاة، فإن ذلك لا يمنع من أن تكون الصدقات كلها، سواء ما كان منها فريضة كالزكاة، أو تطوعا كالإنفاق في سبيل اللّه، والإحسان إلى الفقراء والمساكين، وفى كل وجه من وجوه البر- لا يمنع ذلك من أن تكون جميعها محكومة بهذا البيان، موجهة في هذه الوجوه التي أشارت إليها الآية الكريمة، ودلّت بها على وجوه المصارف التي يصرف إليها المحسنون إحسانهم، وما تجود به أنفسهم، وتقدمه أيديهم من برّ وصدقة.فالفقراء.. هم أحق جماعة في المجتمع الإنسانى، بالرّعاية والحماية، من آفة الفقر التي تفتك بهم، وتغتال المعاني الإنسانية فيهم..ومحاربة هذه الآفة- فوق أنه واجب إنسانىّ تفرضه الأخوة الإنسانية، وتقتضيه لحمة النسب بين الإنسان والإنسان- هي حماية للأغنياء أنفسهم، وضمانة لأمنهم وسلامتهم هم، في أموالهم وأنفسهم، من عادية الفقراء عليهم، والتذرع بكل وسيلة ممكنة، يجد فيها الفقراء منفذا ينفذون منه إلى ما عند الأغنياء، ليشبعوا جوعتهم، وليدفعوا عن أنفسهم خطر الموت جوعا..فالسّرقة، والنهب، والاغتصاب، والقتل الفردى أو الجماعى.. كل هذا وكثير غيره مما يتولّد عنه- هو مما يراه الجياع المحرمون- إن كان للجائع المحروم أن يرى- حقّا مشروعا لهم، في الدفاع عن النفس، واتقاء خطر الموت الذي يتهددهم.. إذ ليس عند الفقير المحروم المشرف على الموت جوعا- ما يحرص عليه، غير نفسه تلك، التي يكاد يفقدها، إن هو لم يعمل على إنقاذها، ولو كان ذلك ما يحمله على ركوب كل مهلكة.. فإنه هالك لا محالة، إن هو لم يعمل عملا في وجه هذا الخطر الذي يتهدده.. وإنه لابد له أن يعمل بدافع غريزة حبّ البقاء. ولن يكفّ عن العمل مادام في صدره نفس يتردد..إن الغريق الذي ابتلعه اليمّ لا يكفّ عن الضرب بكيانه كلّه في وجه الماء، ضربات محمومة، مجنونة، يائسة، وكأنه بهذا ينتقم لنفسه من اليمّ الذي أوقعه في شباكه! يقول الإمام الشافعي- رضى اللّه عنه-: لا تشاور من ليس في بيته دقيق، فإنه مولّه العقل. أي شارد العقل، مضطرب التفكير.فالفقراء خطر يهدد المجتمع من أكثر من وجه..يهددونه بالخروج على شرائعه السماوية والوضعية، وبالتحلل من كل نظام يحكم الجماعة، ويدفع عدوان بعضها على بعض.. وذلك بمدّ أيديهم إلى ما ليس لهم.. وفى هذا إزعاج للمجتمع، وإثارة للفتن والاضطرابات في كيانه..ويهددونه بإشاعة البطالة، وسوء استغلال الموارد المتاحة له.. حيث لا يجد الفقير القدرة على العمل، وهو تحت وطأة الجوع والحرمان.. وإذا وجد القدرة فلن يجد بين يديه الوسائل التي تمكنه من العمل.. وفى هذا خسارة يعود ضررها على المجتمع كله، وبخاصة أغنياء المجتمع، الذين يفقدون اليد العاملة القوية التي تعمل لهم، كما يفقدون اليد القادرة على تبادل المنافع معهم..ومن هنا كان من تدبير الإسلام لمحاربة الفقر، وحماية الفقراء من قسوة هذه الآفة المهلكة- أن فرض على المسلمين الزكاة، وجعلها ركنا من أركان الدين، لمن ملك نصابا معيّنا من المال، وكان من تدبير الإسلام أيضا أن بدأ بالفقراء، وجعل داءهم هو الداء الأول، الذي يتهدد المجتمع، بالضّياع، ويؤذنه بالهلاك.. إن لم تعمل الجماعة جاهدة على محاربة هذه الآفة، ورصد كل قواها للقضاء عليها، وشفاء المجتمع منها..ثم كان من تدبير الإسلام أيضا في هذه السبيل، أن دعا إلى البرّ والإحسان، وحض عليه، ووعد المنفقين بالجزاء الجزل، والثواب العظيم..{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ}.والتكافل بين المسلمين هو ملاك الشريعة الإسلامية.. إذ المسلمون في حقيقتهم كيان واحد.. كل فرد منهم هو عضو في الجسد الاجتماعى الكبير..ولن تقوم سلامة هذا الجسد، إلا بسلامة جميع أعضائه..{وَالْمَساكِينِ} هم الصنف الثاني من الأصناف الثمانية التي جعل الإسلام لكل صنف منها نصيبه في الزكاة..وقد اختلف المفسّرون في التفرقة بين الفقير والمسكين، فقال بعضهم إنهم صنف واحد، والعطف الواقع بينهما هو من عطف البيان.. وقال آخرون: الفقير من يجد قوت يومه، والمسكين من لا يجده، وقال غيرهم عكس هذا.. وقال الأكثرون: الفقير الذي مع فقره لا يسأل، والمسكين هو من يسأل.. إلى كثير من الآراء التي لم تفرق تفرقة واضحة محددة، بين الفقير والمسكين.والرأى الذي نراه ونستريح إليه، هو أن المساكين، هم صنف قائم بذاته، معروف بصفة مميزة له عن الفقراء.. وهم- أي المساكين- الفقراء من أهل الذّمة الذين فرضت عليهم الجزية.. فهم- والحال كذلك- أشبه بالأرقاء، المكاتبين، الذين فرض لهم في الزكاة نصيب.. حيث يقول تعالى: {وَفِي الرِّقابِ}.وفى يقيننا أنه ليس في المسلمين مسكين، وإن كان فيهم الفقير.. لأن المسكين: من المسكنة والذلة والضراعة، ولا يلبس المسلم- مع الإسلام- ثوب المسكنة والذلة والضراعة أبدا، وإن عضّه الفقر، وأضرّ به الضرّ.وقد ذكر اللّه تعالى فقراء المسلمين، فقال سبحانه: {لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافًا} كما ذكر القرآن الكريم المسكين في معرض الذلّة والمهانة: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} فهذه الأصناف الثلاثة يحتويها الضعف وتشتمل عليها الذلّة.
|